تعذيب المسلمين من خلال المنظار المادي تبدو الصورة-فيما يتعلق بالمسلمين- سوداء، بل قاتمة السواد؛ فمن معتقلات التعذيب في البوسنة.
إلى هدم المسجد البابري في الهند، إلى الاعتقال والإبعاد في فلسطين، إلى صور أخرى من المآسي، حتى إن المرء لا يكاد يرى إلا مزيدًا من المعاناة.
ولكن المستقيمين على أمر الله مطمئنين لرضاهم بقدر الله، وثقتهم بنصر الله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
والمحن من سنة الله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. إنها المحنة التي تسفر عن محنة، والشدة التي نهايتها النعمة.
وهو العسر الذي يعقبه يسر، بل يسران، كما فسر رسول الله قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]. فليتأمل المسلمون في آيات الله، وليتدبروا في وقائع التاريخ، وليستفيدوا لأنفسهم يقينًا بالنصر لا يتزعزع، وثقة بالله لا تضعف.
إبراهيم الخليل u بلغ دعوة الله، واستقام على أمره، وتألب عليه الأعداء و{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 68]، فما جزع ولا تردد بل كان عظيم الثقة بربه ومولاه، فكانت النتيجة {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
ألا إن نصر الله قريبوموسى u خرج ببني إسرائيل اتباعًا لأمر الله، فإذا فرعون بجنوده من ورائهم، والبحر من أمامهم، وإذا ببعض ضعاف الإيمان يبلغ بهم الخوف والجزع مداه ويصرخون: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].
وعلى الفور يعلنها موسى كلمة تدوي في سمع الزمان، وتخاطب كل رعديد جبان {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. وجاء الفرج من عند الله {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].
ويوسف u خرج من غيابة الجب إلى أبهة القصر، ثم خرج من تهمة الخيانة إلى العفاف والصيانة، ثم خرج من ظلمة السجن إلى تولي الأمر، ومن الغربة والعناء إلى الألفة واللقاء، ولم يكن ذلك بحوله ولا حيلته بل بفضل الله ومنته، جزاء صبر يوسف واستقامته، قال: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
والمصطفى خرج من مكة مهاجرًا طريدًا، ثم عاد إليها فاتحًا مجيدًا، وبلال بن رباح t تقلبت أحواله من التعذيب عبدًا تحت الصخرة، إلى التشريف مؤذنًا فوق الكعبة، والإمام أحمد بن حنبل تلوح لنا صورته وهو يجلد بالسياط، ثم نراه بعد حين وهو صاحب الجاه والمشورة في أكثر أمور الحياة أهمية.
وشيخ الإسلام ابن تيمية كان ثابت الجنان، منشرح الصدر وهو في أوج محنته ويقول معلمًا: "أنا جنتي في صدري، سجني خلوة، ونفيي سياحة".
وفي عام 491هـ دخل النصارى بيت القدس، ثم طهره صلاح الدين بعد نحو تسعين من السنين، والتتار دمروا الحضارة، وأسقطوا الخلافة سنة 656هـ ثم هزموا في عين جالوت سنة 658هـ، ثم دخل أكثرهم في دين الإسلام أفواجًا.
نعم، محن أعقبتها محن، كل ذلك وفق سنة الله {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
إن قربان النصر إيمان بالله صادق، يعمق الطمأنينة والرضا بقضاء الله، ويزرع الثقة بنصر الله، وحينئذ يتحقق قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا} [الحج: 38]. ثم لابد من الاستقامة على أمر الله، والتزام شرعه وتطبيق حكمه، وعند هذا يتحقق وعد الله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
أما أعداء الأمة فلن ينالوا منا شيئًا إذا اعتصمنا بالله، واستقمنا على أمره، ووثقنا يقينًا بنصره {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]. ماذا بأيديكم؟ فليقتلوا الرجال، وليسبوا النساء، وليدمروا المساجد.
وليحرقوا المنازل، وليفعلوا كل شيء لمحاربة الإسلام والمسلمين؛ فإن دين الله سيعلو، ونوره سيملأ الآفاق {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8، 9].
من ذا يقدر أن يطفئ نور الله؟ ومن يستطيع أن يحارب الله؟ ألا كل محارب لله مهزوم، وإنما يضر نفسه! ألا وإن دين الله منصور، ولكن المحروم من لم يكن مشاركًا في نصر الدين. فإلى المحاربين للدين نقول:
قل لي بربك هل تطيق ذبابة *** حجبًا لنور الشمس وهو البـادي
ونقول:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه *** أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
وإلى الناصرين لدين الله نقول:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ونقول:
اشتـدي أزمــة تنفــرجـي *** بصبـاحٍ حــر منبلـج
وأخيرًا نقول للمسلمين جميعًا: استقيموا واستيقنوا؛ فإن نصر الله قريب.
د. علي بن عمر بادحدح
المصدر: موقع إسلاميات